مغالطات في فهم لغة الوظيفة

تأخذ اللغة لدى معظم الشعوب سمة الرمز الجمعي عند النظر إليها ككامن عقائدي ميّز شعباً ما عن سواه، أو أفرد لشعبٍ ما استحقاقاً يخصّ به فترعاه الآلهة وتُباركه، بينما تترك غيرهم من الأقوام يكدحون لينالوا أهليتهم بالعبودية بفعل منجز إنساني، بل أنَّ بعضهم لُعنوا ولا سبيل أمامهم لنيل رضى الآلهة مهما بلغ منجزهم من إعجاز، في التوراة قامت الآلهة بالدفاع عن نفسها بأن شتّتت البشر وبلبلت ألسنتهم كي تستطيع أن تُهيمن عليهم إلى الأبد، بعد أن أصبح في إمكانهم أن يتكلّموا لساناً واحداً.

فالإنسان المُقيّد إلى الأرض في علاقته بالسماء، وإلى لغته في علاقته بالآخر، يستطيع مضاهاة الآلهة بهذين الشرطين، الارتفاع بمعنى المعرفة، لأنه يجعل الإنسان يطأ سكن الآلهة ويطلّع على معاشها ويكشف أسرارها ووحدة اللغة تعني أن البشر جميعاً أصبحوا "واحداً" له القدرة على الخلق، لأن اللغة الواحدة هي التي تجمع الآلهة على اختلافها وخلافها، وتعطيها قدرة أن تخلق. والخلق بالكلمة صورة متكررة في النصوص المُقدّسة، اليهودية والمسيحية والإسلامية، كما أنَّ عهد الإله مع البشر، هو عهد لغوي، وهو يُشكّل أيضاً جزءاً من المشترك الميثولوجي للشرق الأدنى، ضمن مشتركات ميثية أخرى لعلّ أبرزها الخلق من فخار (صلصال)، أي من لوح الكتابة، بتحويل الكلمات (الروح) إلى أشياء (جسد)، فالصلصال أمام يد الإله هو جسد الإنسان، وأمام يد الإنسان هو جسد الكتابة. وفكرة الخلق من صلصال، كما هي فكرة عهد الآلهة، أعتقد يعود، ضمن معتقدات عديدة أخرى تتمحور حول اللغة والكتابة، إلى السومريين.

لقد كانت الكتابة في معتقدات الشرق القديم هي استظهار المُقدّس، وكان الكاتب ناطقاً بلسان الآلهة. كان آشور بانيبال يفتخر أن الآلهة وهبته "علم الكتابة"، ولكنّه كان أيضاً يتمنّى الأكثر: أن يقرأ "ألواح ما قبل الطوفان" التي لم يستطع فك رموزها، لأنه لم يكن مهيأ لمعرفة سر التكوين، الذي يعني أيضاً سرّ الخلود، وهو امتياز وُهب لأوتنابشتيم وحده، وعجز حفيده غلغامش عن بلوغه ليعيش بقية عمره مقيداً بشرط الموت كإنسانٍ فانٍ. أما مع اليونانيين فإن الكتابة ستتحول إلى فعلٍ مُدنّس، سيُصبح الكاتب عبداً، وفعل الكتابة تحقير لا يليق بسادة العقيدة، ونستطيع بدءاً من أفلاطون أن نتحدّث عن (الكتابة المُدنّسة)، كما يقول جاك دريدا، ربما مع الفينيقيين في البحر المتوسط ستُصبح الكتابة فعلاً إنسانياً، وشرط معرفة، وتكتسب بعداً حسياً جديداً.

إنَّ هذه المظاهر المتعددة، المتباينة، للغة والكتابة تؤشر على ضرورة تأويل قِدم تآثر وتواتر الألسن، باستظهار آلية هجراتها وتنقلاتها. مثلما هو الأمر بالنسبة لإعادة بناء تصوّر نظري عام لانتشار وتآثر اللغات تاريخاً.

يُمكننا أن نلجأ بمنهج استرجاعي إلى إعادة تصور ما يُمكن تسميته "وضعاً لغوياً" لمنطقة الشرق الأدنى الذي يشمل شمال الجزيرة وجنوبها، وشمال أفريقيا وشرقها، مع ما يُمكن أن يرفده من شواهد أنثروبولوجية وبيئية، وتُتيح لنا الصلة بالسومرية (كما يعرضها هذا الكتاب) إعادة التفكير على أساس الانتشار المتحوّل، دون أن يعني ذلك الوقوع في الإطلاق والتعميم، فالإطلاق والتعميم لا يقودان سوى إلى بعث معتقدات .